فصل: فوائد بلاغية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد بلاغية:

قال ابن قتيبة:
باب القول في المجاز:
وأما (المجاز) فمن جهته غلط كثير من الناس في التأويل، وتشعّبت بهم الطرق، واختلفت النّحل: فالنصارى تذهب في قول المسيح عليه السلام في الإنجيل: (أدعوا أبي، وأذهب إلى أبي) وأشباه هذا، إلى أبوّة الولادة.
ولو كان المسيح قال هذا في نفسه خاصة دون غيره، ما جاز لهم أن يتأوّلوه هذا التأويل في اللّه- تبارك وتعالى عما يقولون علوا كبيرا- مع سعة المجاز، فكيف وهو يقوله في كثير من المواضع لغيره؟ كقوله حين فتح فاه بالوحي: إذا تصدّقت فلا تعلم شمالك بما فعلت يمينك، فإنّ أباك الذي يرى الخفيّات يجزيك به علانية، وإذا صلّيتم فقولوا: يا أبانا الذي في السماء ليتقدّس اسمك، وإذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك لئلا يعلم بذلك غير أبيك.
وقد قرؤوا في (الزّبور) أن اللّه تبارك وتعالى قال لداود عليه السلام: سيولد لك غلام يسمّى لي ابنا وأسمّى له أبا.
وفي (التّوراة) أنه قال ليعقوب عليه السلام: أنت بكري.
وتأويل هذا أنه في رحمته وبرّه وعطفه على عباده الصالحين، كالأب الرحيم لولده.
وكذلك قال المسيح للماء: (هذا أبي)، وللخبز: (هذا أمي)، لأنّ قوام الأبدان بهما، وبقاء الروح عليهما، فهما كالأبوين اللّذين منهما النّشأة، وبحضانتهما النّماء.
وكانت العرب تسمّي الأرض أمّا، لأنها مبتدأ الخلق، وإليها مرجعهم، ومنها أقواتهم، وفيها كفايتهم.
وقال أميّة بن أبي الصّلت:
والأرض معقلنا وكانت أمّنا ** فيها مقابرنا وفيها نولد

وقال يذكرها:
منها خلقنا وكانت أمّنا خلقت ** ونحن أبناؤها لو أننا شكر

هي القرار فما نبغي بها بدلا ** ما أرحم الأرض إلا أنّنا كفر

وقال اللّه تعالى في الكافر: {فأُمُّهُ هاوِيةٌ} [القارعة: 9] لمّا كانت الأمّ كافلة الولد وغاذيته، ومأواه ومربّيته، وكانت النار للكافر كذلك- جعلها أمّه.
وقال في أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم: {وأزْواجُهُ أُمّهاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، أي: كأمهاتهم في الحرمات.
وفي (التوراة) (إنّ اللّه برّك اليوم السابع وطهّره، من أجل أنه استراح فيه من خليقته التي خلق).
وأصل الاستراحة: أن تكون في معاناة شيء ينصبك ويتعبك، فتستريح.
ثم ينتقل ذلك فتصير الاستراحة بمعنى: الفراغ. تقول في الكلام: استرحنا من حاجتك وأمرنا بها. تريد فرغنا، والفراغ، أيضا يكون من الناس بعد شغل.
ثم قد ينتقل ذلك فيصير في معنى القصد للشيء، تقول: لئن فرغت لك، أي قصدت قصدك.
وقال الله تعالى: {سنفْرُغُ لكُمْ أيُّه الثّقلانِ} [الرحمن: 31]. واللّه تبارك وتعالى لا يشغله شأن عن شأن. ومجازه: سنقصد لكم بعد طول التّرك والإمهال.
وقال قتادة: قد دنا من اللّه فراغ لخلقه. يريد: أن الساعة قد أزفت وجاء أشراطها.
وتأوّل قوم في قوله تعالى: {فِي أيِّ صُورةٍ ما شاء ركّبك} [الانفطار: 8] معنى (التناسخ). ولم يرد اللّه في هذا الخطاب إنسانا بعينه، وإنما خاطب به جميع الناس كما قال: {يا أيُّها الْإِنْسانُ إِنّك كادِحٌ إِلى ربِّك كدْحا} [الانشقاق: 6] كما يقول القائل: يا أيها الرجل، وكلّكم ذلك الرجل.
فأراد أنه صوّرهم وعدّلهم، في أيّ صورة شاء ركّبهم: من حسن وقبح، وبياض وسواد، وأدمة وحمرة.
ونحوه قوله: {ومِنْ آياتِهِ خلْقُ السّماواتِ والْأرْضِ واخْتِلافُ ألْسِنتِكُمْ وألْوانِكُمْ} [الروم: 22].
وذهب قوم في قول اللّه وكلامه: إلى أنه ليس قولا ولا كلاما على الحقيقة، وإنما هو إيجاد للمعاني. وصرفوه في كثير من القرآن إلى المجاز، كقول القائل: قال الحائط فمال، وقل برأسك إلى، يريد بذلك الميل خاصة، والقول فضل.
وقال بعضهم في قوله للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدم} [البقرة: 34]: هو إلهام منه للملائكة، كقوله: {وأوْحى ربُّك إِلى النّحْلِ} [النحل: 68] أي ألهمها. وكقوله: {وما كان لِبشرٍ أنْ يُكلِّمهُ اللّهُ إِلّا وحْيا أوْ مِنْ وراءِ حِجابٍ أوْ يُرْسِل رسُولا فيُوحِي بِإِذْنِهِ ما يشاءُ} [الشورى: 51] وذهبوا في الوحي هاهنا: إلى الإلهام.
وقالوا في قوله للسماء والأرض: {ائْتِيا طوْعا أوْ كرْها قالتا أتيْنا طائِعِين} [فصلت: 11]: لم يقل اللّه ولم يقولا، وكيف يخاطب معدوما؟ وإنما هذا عبارة: لكوّناهما فكانتا.
قال الشاعر حكاية عن ناقته:
تقول إذا درأت لها وضيني ** أهذا دينه أبدا وديني

أكلّ الدّهر حلّ وارتحال ** أما يبقي عليّ ولا يقيني

وهي لم تقل شيئا من هذا، ولكنه رآها في حال من الجهد والكلال، فقضى عليها بأنها لو كانت ممن تقول لقالت مثل الذي ذكر.
وكقول الآخر:
شكا إلى جملي طول السّرى

والجمل لم يشك، ولكنه خبّر عن كثرة أسفاره، وإتعابه جمله، وقضى على الجمل بأنه لو كان متكلما لا شتكى ما به.
وكقول عنترة في فرسه:
فازورّ من وقع القنا بلبانه ** وشكا إلى بعبرة وتحمحم

لما كان الذي أصابه يشتكي مثله ويستعبر منه، جعله مشتكيا مستعبرا، وليس هناك شكوى ولا عبرة.
قالوا: ونحو هذا قوله تعالى: {يوْم نقول لِجهنّم هلِ امْتلأْتِ وتقول هلْ مِنْ مزِيدٍ} [ق: 30] وليس يومئذ قول منه لجهنم، ولا قول من جهنم، وإنما هي عبارة عن سعتها.
وفي قوله: {تدْعُوا منْ أدْبر وتولّى} [المعارج: 17] يريد: أن مصير من أدبر وتولى إليها، فكأنها الداعية لهم، كما قال ذو الرّمة:
دعت ميّة الأعداد واستبدلت بها ** خناطيل آجال من العين خذّل

والأعداد: المياه، لما انتقلت ميّة إليها ورغبت عن مائها، كانت كأنها دعتها.
وكقول الآخر:
ولقد هبطت الواديين وواديا ** يدعو الأنيس به الغضيض الأبكم

والغضيض الأبكم: الذّباب، يريد: أنه يطنّ فيدل بطنينه على النبات والماء، فكأنه دعاء منه.
وقال أبو النجم يذكر نبتا:
مستأسدا ذبّانه في غيطل ** يقلن للرّائد: أعشبت انزل

ولم يقل الذباب شيئا من هذا، ولكنه دل على نفسه بطنينه، ودل مكانه على المرعى، لأنه لا يجتمع إلا في عشب، فكأنه قال للرائد: هذا عشب فأنزل.
وقال آخر يصف ذئبا:
يستخبر الرّيح إذا لم يسمع ** بمثل مقرًّاع الصّفا الموقّع

يريد: أنه يشتمم ثم يتّبع الرائحة بخطم كأنه الفأس التي يكسر بها الصخر، فجعل تشممه استخبارا.
قال أبو محمد: وقد تبين لمن قد عرف اللغة، أن القول يقع فيه المجاز، فيقال: قال الحائط فمال، وقل برأسك إلى، أي أمله، وقالت الناقة، وقال البعير.
ولا يقال في مثل هذا المعنى: تكلم، ولا يعقل الكلام إلا بالنطق بعينه، خلا موضع واحد وهو أن تتبين في شيء من الموات عبرة وموعظة فتقول خبّر وتكلم وذكّر، لأنه دلّك معنى فيه، فكأنه كلمك، وقال الشاعر:
وعظتك أجداث صمت ** ونعتك ألسنة خفت

وتكلمت عن أوجه تبلى ** وعن صور سبت

وأرتك قبرك في القبو ** ر وأنت حيّ لم تمت

وقال الكميت يمدح رجلا:
أخبرت عن فعاله الأرض ** واستن طق منها اليباب والمعمورا

وقال عوف بن الخرع يذكر الدار:
وقفت بها ما تبين الكلام ** لسائلها القول إلا سرارا

يقول: ليست تبين الكلام لمخاطبها، إلا أنّ ظاهر ما يرى دليل على الحال، فكأنه سرار من القول، ولهذا قالت الحكماء: كل صامت ناطق. يريدون أنّ أثر الصنعة فيه يدل على محدثه ومدبّره.
ومن هذا قول اللّه عز وجل: {أمْ أنْزلْنا عليْهِمْ سُلْطانا فهُو يتكلّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُون} [الروم: 35] أي أنزلنا عليهم برهانا يستدلون به، فهو يدلهم.
ونبيّن له أيضا أن أفعال المجاز لا تخرج منها المصادر ولا توكّد بالتكرار، فتقول:
أراد الحائط أن يسقط، ولا تقول: أراد الحائط أن يسقط إرادة شديدة، وقالت الشجرة فمالت، ولا تقول: قالت الشجرة فمالت قولا شديدا. واللّه تعالى يقول: {وكلّم اللّهُ مُوسى تكْلِيما} [النساء: 164] فوكّد بالمصدر معنى الكلام، ونفى عنه المجاز.
وقال: {إِنّما قولنا لِشيْءٍ إِذا أردْناهُ أنْ نقول لهُ كُنْ فيكُونُ} [النحل: 40] فوكّد القول بالتكرار، ووكّد المعنى بإنما.
وأما قول من قال منهم: إن قوله للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدم} [البقرة: 34، والأعراف:
11، والإسراء: 61، والكهف: 50، وطه: 116] إلهام، {وما كان لِبشرٍ أنْ يُكلِّمهُ اللّهُ إِلّا وحْيا أوْ مِنْ وراءِ حِجابٍ} [الشورى: 51] أي إلهاما- فما ننكر أنّ القول قد يسمى وحيا، والإيماء وحيا، والرمز بالشفتين والحاجبين وحيا، والإلهام وحيا. وكل شيء دللت به فقد أوحيت به، غير أنّ إلهام النّحل تسخيرها لاتخاذ البيوت، وسلوك السّبل والأكل من كل الثمرات.
وقال العجّاج وذكر الأرض:
وحي لها القرار فاستقرّت أي: سخّرها لأن تستقر، فاستقرت.
وأما قوله: {وما كان لِبشرٍ أنْ يُكلِّمهُ اللّهُ إِلّا وحْيا أوْ مِنْ وراءِ حِجابٍ أوْ يُرْسِل رسُولا فيُوحِي بِإِذْنِهِ ما يشاءُ} [الشورى: 51] فالوحي الأول: ما أراه اللّه تعالى الأنبياء في منامهم.
والكلام من وراء الحجاب: تكليمه موسى.
والكلام بالرسالة: إرساله الروح الأمين بالرّوح من أمره إلى من يشاء من عباده.
ولا يقال لمن ألهمه اللّه: كلّمه اللّه، لما أعلمتك من الفرق بين (الكلام) (و القول).
ولا يجوز أن يكون قوله للملائكة وإبليس، وطول مراجعته إياه في السّجود، والخروج من الجنة، والنّظرة إلى يوم البعث- إلهاما. هذا ما لا يعقل. وإن كان ذلك تسخيرا فكيف يسخّر لشيء يمتنع منه؟.
وأما تأويلهم في قوله جل وعزّ للسّماء والأرض: {ائْتِيا طوْعا أوْ كرْها قالتا أتيْنا طائِعِين} [فصلت: 11]: إنه عبارة عن تكوينه لهما. وقوله لجهنم: {هلِ امْتلأْتِ وتقول هلْ مِنْ مزِيدٍ} [ق: 30] إنه إخبار عن سعتها- فما يحوج إلى التّعسّف والتماس المخارج بالحيل الضعيفة؟ وما ينفع من وجود ذلك في الآية والآيتين والمعنى والمعنيين- وسائر ما جاء في كتاب اللّه عزّ وجلّ من هذا الجنس، وفي حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم- ممتنع عن مثل هذه التأويلات؟.
وما في نطق جهنم ونطق السماء والأرض من العجب؟ واللّه تبارك وتعالى ينطق الجلود، والأيدي، والأرجل، ويسخّر الجبال والطير، بالتّسبيح. فقال: {إِنّا سخّرْنا الْجِبال معهُ يُسبِّحْن بِالْعشِيِّ والْإِشْراقِ والطّيْر محْشُورة كُلٌّ لهُ أوّابٌ} [ص: 19] وقال: {يا جِبالُ أوِّبِي معهُ والطّيْر} [سبأ: 10] أي سبّحن معه. وقال: {وإِنْ مِنْ شيْءٍ إِلّا يُسبِّحُ بِحمْدِهِ ولكِنْ لا تفْقهُون تسْبِيحهُمْ إِنّهُ كان حلِيما غفُورا} [الإسراء: 44].
وقال في جهنم: {تكادُ تميّزُ مِن الْغيْظِ} [الملك: 8] أي تنقطع غيظا عليهم كما تقول: فلان يكاد ينقدّ غيظا عليك، أي ينشق.
وقال: {إِذا رأتْهُمْ مِنْ مكانٍ بعِيدٍ سمِعُوا لها تغيُّظا وزفِيرا} [الفرقان: 12].
وروي في الحديث أنها تقول: (قط قط) أي حسبي.
وهذا سليمان عليه السلام يفهم منطق الطّير وقول النّمل، والنمل من الحكل، والحكل ما لا يسمع له صوت. قال رؤبة:
لو كنت قد أوتيت علم الـ **ـحكل علم سليمان كلام النّمل

وقال العمانيّ يمدح رجلا:
ويفهم قول الحكل لو أنّ ذرّة ** تساود أخرى لم يفته سوادها

والسّواد: السّرار، جعل قولها سرارا، لأنها لا تصوّت.
وهذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، تخبره الذّراع المسمومة ويخبره البعير أنّ أهله يجيعونه ويدئبونه في أشباه لهذا كثيرة.
وأنكروا مع هذا (السّحر) إلا من جهة الحيلة.
وقالوا: منه رقاة التّميمة يفرّق بها بين المرء وزوجه، والكذب تصرف به القلوب عن المحبة إلى البغضة، وعن البغضة إلى المحبة.
وقالوا: منه السّموم يسحر بها فتقطع عن النساء، وتحتّ الشّعر وتغيّر الخلق.
واللّه تعالى يقول: {ومِنْ شرِّ النّفّاثاتِ فِي الْعُقدِ ومِنْ شرِّ حاسِدٍ إِذا حسد} [الفلق: 4، 5] فأعلمنا أنهن ينفثن- والنّفث كالتّفل- كما ينفث الرّاقي في عقد يعقدها.
قال الشاعر:
يعقّد سحر البابليين طرفها ** مرارا ويسقينا سلافا من الخمر

فأراد أن طرفها يذهب بعقولنا كما يذهب السّحر والراح بالعقل.
وقد سحر رسول اللّه، صلى الله عليه وسلم، وجعل سحره في بئر ذي أروان، واستخرجه (عليّ) منها، وجعل يحلّه عقدة عقدة، فكلما حل عقدة وجد النبي، صلى الله عليه وسلم راحة وخفّا، فلما فرغ من حلّه قام النبي، صلى الله عليه وسلم، كأنما أنشط من عقال.
وقال الله تعالى: {يُعلِّمُون النّاس السِّحْر وما أُنْزِل على الْملكيْنِ بِبابِل هارُوت ومارُوت وما يُعلِّمانِ مِنْ أحدٍ حتّى يقولا إِنّما نحْنُ فِتْنةٌ فلا تكْفُرْ فيتعلّمُون مِنْهُما ما يُفرِّقُون بِهِ بيْن الْمرْءِ وزوْجِهِ} [البقرة: 102].
أفتراهما كانا يعلّمان التّمائم، والكذب وسقي السّموم؟!.
وبمثل هذا النظر أنكروا عذاب القبر، ومساءلة الملكين، وحياة الشهداء عند ربهم يرزقون، وأنكروا إصابة العين ونفع الرّقي والعوذ، وعزيف الجنان، وتخبّط الشيطان، وتعوّل الغيلان.
فلما رأوا تواطؤ العرب على ذلك، وإكثار الشعراء فيه، كقول ذي الرّمة:
إذا حثّهنّ الرّكب في مدلهمّة ** أحاديثها مثل اصطخاب الضّرائر

وكقول زهير:
تسمع للجنّ عازفين بها ** تضبح عن رهبة ثعالبها

في أشباه لهذا كثيرة- طلبوا الحيلة فقالوا: علّة ما يسمعون من هذا ويرون- انفراد القوم وتوحّشهم في الفلوات والقفار، ومن انفرد فكّر وتوهّم واستوحش وتخيّل، فرأى ما لا يرى، وسمع ما لا يسمع، كما قال حميد بن ثور:
مفزّعة تستحيل الشّخوص ** من الخوف تسمع ما لا ترى

وقالوا: ومن أحناش الأرض، وأحناش الطير في المهامة والرمال- ما لا يظهر ولا يصوّت إلا بالليل كالصّدى والضّوع والبوم واليراع، فإذا سمع أحدهم حسيس هامة، أو زقاء بوم، أو رأى لمع يراعة من بعد- وجب قلبه، وقفّ شعره، وذهبت به الظّنون.
وقالوا: في النهار ساعات تتغيّر فيها مناظر الأشباح، وتتضاعف أعدادها، وفربما رئي الصغير كبيرا، والكبير صغيرا، والواحد اثنين، وقد يسمع لأصوات الفلا والحرار، مثل الدّويّ، ولذلك قال ذو الرّمة:
إذا قال حادينا لتشبيه نبأة صه ** لم يكن إلا دويّ المسامع

وبهذا سمّيت الفلاة: دوّيّة، كأن الدّوّ حكاية ما يسمعون، ثم نسب المكان إليه، قال الأعشى:
فوق ديمومة تخيّل بالسّفر ** قفارا إلا من الآجال

يريد بقوله: تخيّل بالسفر، أنهم يرونها مرّة على هيئة، ومرة على هيئة، قال كعب ابن زهير:
وصرماء مذكار كأنّ دويّها ** بعيد جنان اللّيل مما يخيّل

حديث أناسيّ فلمّا سمعته ** إذا ليس فيه ما أبين فأعقل

وقال الأخطل يذكر فلاة رأى الصغير فيها كبيرا:
ترى الثّعلب الحوليّ فيها ** كأنّه إذا ما علا نشزا حصان مجلّل

وقال النابغة:
وحلّت بيوتي في يفاع ممنّع ** تخال به راعي الحمولة طائرا

هذا رأى الكبير صغيرا لأنه في شرف.
وقال ابن أحمر أيضا في تضاعف الأعداد:
وازدادت الأشباح أخيلة ** وتعلّل الحرباء بالنّقر

وأخشى أن يكون معتقدا هذا والقائل به، يرفّق عن صبوح، ويسرّ حسوا في ارتغاء.
وما على من آمن بالبعث من الممات: أن يؤمن بعذاب البرزخ، وقد خبّر به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقوله قاض على الكتاب، وبمسائلة اللّه يوم القيامة: أن يؤمن بمسائلة الملكين في القبر؟!.
وما على من آمن بإنّيّة الشيطان: أن يؤمن بتخبّطه؟ ومن صدّق بخلق الجن والغيلان: أن يصدّق بعزيفها وتغوّلها؟!.
وما أخرجه إلى تجهيل العرب قاطبة وتكذيبها: وشاهدها على صدق ما تقول كتاب اللّه تعالى، ورسوله، وكتب اللّه المتقدمة، وأنبياؤه، وأمم العجم كلها؟!.
قد جعل اللّه الجن أحد الثّقلين، وخاطبهم في الكتاب كما خاطبنا، وسمّاهم رجالا كما سمّانا فقال: {وأنّهُ كان رِجالٌ مِن الْإِنْسِ يعُوذُون بِرِجالٍ مِن الْجِنِّ} [الجن: 6].
وقال في الحور العين: {لمْ يطْمِثْهُنّ إِنْسٌ قبْلهُمْ ولا جانٌّ} [الرحمن: 74]، فدل على أن الجن تطمث الإنس.
وأخبرنا عن طائفة منهم سمعوا القرآن فولّوا إلى قومهم منذرين، وقال: {الّذِين يأْكُلُون الرِّبا لا يقُومُون إِلّا كما يقُومُ الّذِي يتخبّطُهُ الشّيْطانُ مِن الْمسِّ} [البقرة: 275]، والمسّ: الجنون، سمّي مسّا، لأنه عن إلمام الشيطان ومسّه، يكون.
هذا مع أخبار كثيرة صحاح تؤثر عن الرّسول، صلى الله عليه وسلم، وعن السلف في الرّئيّ والنّجيّ.
وما ننكر مع هذا الفلوات قد يعرض فيها ما يذكرون، ولكنّ ذلك لا يدفع به حقائق ما يسمعون ويبصرون.
ولم تكن العرب طرّا- مع أفهامها وألبابها- لتتواطأ على تخيّل وظنون، ولا كلّها أسمعه الخوف، وأراه الجبن، فهذا أبو البلاد الطّهويّ، وتأبّط شرّا-: وهما من مردة العرب، وشياطين الإنس.- يصفان الغول، ويحلّيانها ويساورانها.
وهذا أبو أيوب الأنصاري يأسرها.
وهذا عمر رضي اللّه عنه، يصارع الجنّيّ.
وما جاء في هذا أكثر من أن تحيط به.
فمن آمن بمحمد، صلى الله عليه وسلم، وبأنّ ما جاء به الحقّ، آمن بجميع هذا، وشرح صدره به.
ومن أنكره-: لأنه لا يؤمن إلّا بما أوجبه النظر والقياس على ما شاهد ورأى في الموات والحيوان- فما ذا بقي على المسلمين؟ وأيّ شيء ترك للملحدين؟.
وذهب (أهل القدر) في قول اللّه عز وجل: {يُضِلُّ منْ يشاءُ ويهْدِي منْ يشاءُ} [النحل: 93، وفاطر: 8] إلى أنه على جهة التسمية والحكم عليهم بالضلالة، ولهم بالهداية.
وقال فريق منهم: يضلّهم: ينسبهم إلى الضلالة، ويهديهم: يبيّن لهم ويرشدهم.
فخالفوا بين الحكمين، ونحن لا نعرف في اللغة أفعلت الرجل: نسبته. وإنما يقال إذا أردت هذا المعنى: فعّلت: تقول: شجّعت الرجل وجنبّنته وسرّقته وخطّأته، وكفّرته وضلّلته وفسّقته وفجّرته ولحنته. وقرئ: {إِنّ ابْنك سرق} [يوسف: 81]، وأي نسب إلى السّرق.
ولا يقال في شيء من هذا كله: أفعلته، وأنت تريد نسبته إلى ذلك.
وقد احتج رجل من النحويين كان يذهب إلى (القدر)- لقول العرب: كذّبت الرجل وأكذبته- بقول الله تعالى: {فإِنّهُمْ لا يُكذِّبُونك} [الأنعام: 33] ولا يكذبونك، وذكر أنّ أكذبت وكذّبت جميعا، بمعنى: نسبت إلى الكذب.
وليس ذاك كما تأوّل، وإنما معنى أكذبت الرجل: ألفيته كاذبا. وقول اللّه تبارك وتعالى: {فإِنّهُمْ لا يُكذِّبُونك} بالتخفيف أي: لا يجدونك كاذبا فيما جئت به، كما تقول: أبخلت الرجل وأجبنته وأحمقته، أي وجدته جبانا بخيلا أحمق.
وقال عمرو بن معد يكرب لبني سليم: قاتلناكم فما أجبنّاكم، وسألناكم فما أبخلناكم، وهجوناكم فما أفحمناكم أي: لم نجدكم جبناء، ولا بخلاء، ولا مفحمين.
وقال الكسائي: العرب تقول: أكذبت الرجل: إذا أخبرت أنه رواية للكذب:
وكذّبته: إذا أخبرت أنه كاذب. ففرق بين المعنيين.
واحتج أيضا لأفعلت في معنى نسبت، بقول ذي الرّمة يصف ربعا:
وأسقيه حتّى كاد ممّا أبـ ** ـثّه تكلّمني أحجاره وملاعبه

وتأوّل في أسقيه معنى أسقّيه من طريق النّسبة.
ولا أعلم (له) في هذا حجّة، لأنا نقول: قد أرعى اللّه هذه الماشية، أي: أنبت لها ما ترعاه، فكذلك تقول: أسقى اللّه الربع، أي أنزل عليه مطرا يسقيه، وأنا أرعى الماشية، وأسقي الربع، أي أدعو لها بالمرعى، وله بالسّقيا.
واحتج آخر ببيت ذكر أنه لطرفة:
وما زال شربي الرّاح حتّى أشرّني ** صديقي وحتّى ساءني بعض ذلك

وتوهّم أن قوله: أشرّني، نسبني إلى الشرّ.
وليس ذاك كما تأوّل، وإنما أراد شهرني وأذاع خبري، من قولك: أشررت الأقط وشرّرته، إذا بسطته على شيء ليجف. وقال الشاعر وذكر يوم صفّين:
وحتى أشرّت بالأكف المصاحف

يريد: شهرت وأظهرت.
وروى عبد اللّه بن محمد بن أسماء، عن جويرية، قال: كنت عند قتادة فسئل عن القدر، فقال: ما زالت العرب تثبت القدر في الجاهلية والإسلام.
وحدثني أبو حاتم: سهل بن محمد، عن الأصمعي قال: قلت لدرواس الأعرابيّ: ما جعل بني فلان أشرف من بني فلان؟ قال: الكتاب. يعني (القدر)، ولم يقل: المكارم والفعال.
وكان الأصمعي ينشد من الشعر أبياتا في القدر ذكرتها وغيرها:
قال: أنشدني عيسى بن عمر لبدويّ:
كلّ شيء حتى أخيك متاع ** وبقدر تفرّق واجتماع

وقال المرّار بن سعيد الأسديّ:
ومن سابق الأقدار إذ دأبت به ** ومن نائل شيئا إذا لم يقدّر؟

وقال جميل:
أقدّر أمرا لست أدري: أناله؟ ** وما يقدر الإنسان؟ فاللّه قادر

وقال ابن الدّمينة:
زوروا بنا اليوم سلمى أيّها ** النّفر ونحن لمّا يفرّق بيننا القدر

وقال الفرزدق:
ندمت ندامة الكسعيّ لمّا ** غدت مني مطلّقة نوار

ولو ضنّت بها كفّي ونفسي ** لكان عليّ للقدر الخيار

وقال القسّ:
قد كنت أعذل في السّفاهة أهلها ** فاعجب لما تأتي به الأيّام

فاليوم أعذرهم، وأعلم أنّما ** سبل الغواية والهدى أقسام

وقال ابن أحمر حين سقي بطنه:
شربنا وداوينا، وما كان ضرّنا ** إذا اللّه حمّ القدر- ألّا نداويا

وقال الشّمّاخ:
وإنّي عداني عنكما غير ماقت ** نواران مكتوب عليّ بغاهما

أي حاجتان عسيرتان. والنّوار: النّفور. مكتوب عليّ أي مقدور عليّ طلبهما.
وقال الأعشى:
في فتية كسيوف الهند قد علموا ** أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل

يعني: هم موقنون بأن ما قدّر وحتم لا يدفع بالحيلة، فهم موطّنون أنفسهم عليه.
وقال أبو زبيد:
فلا تك كالموقوص عن ظهر رحله ** تردّت به أسبابه وهو ينظر

أسبابه: المقادير، تردّت به وهو ينظر لا يقدر أن يدفع ذلك. والموقوص: الذي قد اندقّت عنقه.
وقال الراعي:
وهنّ يحاذرن الرّدى أن يصيبني ** ومن قبل خلقي خطّ ما كنت لاقيا

وكائن ترى من مسعف بمنيّة ** يجنّبها أو معصم ليس ناجيا

وقال أفنون التّغلبي:
لعمرك ما يدري الفتى كيف يتّقي ** إذا هو لم يجعل له اللّه واقيا

وقال لبيد بن ربيعة العامري:
إنّ تقوى ربّنا خير نفل ** وبإذن اللّه ريثي وعجل

من هداه سبل الخير اهتدى ** ناعم البال ومن شاء أضل

أفترى لبيدا أراد بقوله: من شاء أضل، أي سمّي ضالا؟ لا لعمر اللّه ما عرف هذا لبيد ولا وجده في شيء من اللغات. والمعنى في ضلّلت، وأضللت، ويشرح صدره للإسلام، ويجعل صدره ضيّقا حرجا- يمتنع على التأويل المطلوب بالحيلة عند من عرف اللغة.
وربما جعلت العرب (الإضلال) في معنى الإبطال والإهلاك، لأنه يؤدّي إلى الهلكة، ومنه قوله تعالى: {وقالوا أإِذا ضللْنا فِي الْأرْضِ أإِنّا لفِي خلْقٍ جدِيدٍ} [السجدة: 10]، أي بطلنا ولحقنا بالتراب وصرنا منه. والعرب تقول: ضلّ الماء في اللبن: إذا غلب اللبن عليه فلم يتبيّن.
وقال النابغة الذبياني يرثي بعض الملوك:
وآب مضلّوه بعين جليّة ** وغودر بالجولان حزم ونائل

أي قابروه، سمّاهم مضلّين لأنهم غيّبوه وأفقدوه فأبطلوه.
هذا مذهب العرب في (القدر)، وهو مذهب كل أمة من العجم، وأنّ اللّه في السماء، ما تركت على الجبلّة والفطرة، ولم تنقل عن ذلك بالمقاييس والتّلبيس.
وقد أعلمتك في كتاب (غريب الحديث) أن فريقا منهم يقولون: لا يلزمنا اسم (القدر) من طريق اللغة، لأنه يتأوّل علينا أنا نقول: لا قدر، فكيف ننسب إلى ما نجحد؟.
وأن هذا تمويه، وإنما نسبوا إلى (القدر) لأنهم يضيفونه إلى أنفسهم، وغيرهم يجعله للّه دون نفسه، ومدّعي الشيء لنفسه أولى بأن ينسب إليه ممن جعله لغيره.
وأما الطاعنون على القرآن (بالمجاز) فإنهم زعموا أنه كذب. لأن الجدار لا يريد، والقرية لا تسأل.
وهذا من أشنع جهالاتهم، وأدلّها على سوء نظرهم، وقلة أفهامهم.
ولو كان المجاز كذبا، وكلّ فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلا- كان أكثر كلامنا فاسدا، لأنا نقول: نبت البقل، وطالت الشّجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجبل، ورخص السّعر.
وتقول: كان اللّه. وكان بمعنى حدث، واللّه، جل وعز: قبل كل شيء بلا غاية، لم يحدث: فيكون بعد أن لم يكن.
واللّه تعالى يقول: {فإِذا عزم الْأمْرُ} [محمد: 21] وإنما يعزم عليه.
ويقول تعالى: {فما ربِحتْ تِجارتُهُمْ} [البقرة: 16] وإنما يربح فيها.
ويقول: {وجاؤُ على قمِيصِهِ بِدمٍ كذِبٍ} [يوسف: 18] وإنما كذّب به.
ولو قلنا للمنكر لقوله: {جِدارا يُرِيدُ أنْ ينْقضّ} [الكهف: 77] كيف كنت أنت قائلا في جدار رأيته على شفا انهيار: رأيت جدارا ماذا؟ لم يجد بدّا من أن يقول: جدارا يهمّ أن ينقضّ، أو يكاد أن ينقضّ، أو يقارب أن ينقضّ. وأيّا ما قال فقد جعله فاعلا، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى في شيء من لغات العجم، إلا بمثل هذه الألفاظ.
وأنشدني السّجستاني عن أبي عبيدة في مثل قول اللّه: {يُرِيدُ أنْ ينْقضّ}:
يريد الرّمح صدر أبي براء ** ويرغب عن دماء بني عقيل

وأنشد الفرّاء:
إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل ** لزمان يهمّ بالإحسان

والعرب تقول: بأرض فلان شجر قد صاح. أي طال، لمّا تبيّن الشّجر للنّاظر بطوله، ودلّ على نفسه- جعله كأنه صائح: لأن الصائح يدلّ على نفسه بصوته.
ومثل قول العجاج:
كالكرم إذ نادى من الكافور

ويقال: هذا شجر واعد، إذا نوّر، كأنّه نوّر لمّا وعد أن يثمر. ونبات واعد، إذا أقبل بماء ونضرة.
قال سويد بن كراع:
رعى غير مذعور بهنّ وراقه ** لماع تهاداه الدّكادك واعد

في أشباه لهذا كثيرة، سنذكر ما نحفظ منها في كتابنا هذا مما أتى في كتاب اللّه، عز وجل، وأمثاله من الشعر، ولغات العرب، وما استعمله الناس في كلامهم.
ونبدأ بباب الاستعارة، لأن أكثر المجاز يقع فيه. اهـ.
فالعرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة، إذا كان المسمى بها بسبب من الأخرى، أو مجاورا لها، أو مشاكلا. فيقولون للنبات: نوء لأنه يكون عن النوء عندهم.